المحن الشديدة تأتي بعدها المنح العظيمة

المحن الشديدة تأتي بعدها المنح العظيمة

أسرى المصائب الراهنة، وعبيد لحظتهم الحالية العصيبة الذين لاينظرون أبعد منها ولاينتظرون بعدها فرجا، هم أتعس الناس حياة وأكثرهم شقاء، هؤلاء يجزعون كلما جرت السفن بغير مايشتهون، ويهرعون كلما ألمت بهم مصيبة وكأنها ستكون القاضية، وينسون أن مع العسر يسرا، وأن الفرج يأتي بعد الشدة، وأن دوم الحال من المحال، وأن الدنيا دول والأيام حبلى، وأنه لاييأس من روح الله ورحمته إلا القوم الفاسقون.

المنح الكبرى لاتأتي إلا بعد المحن الشديدة

في بداية دعوته صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت الذي لم تكن دعوته قد تمكنت، وفي أوج حاجته إلى من يسانده ويحميه ويدافع عنه، شاء الله أن يغيب الموت عمه أباطالب الذي كان أكبر المدافعين عنه وأكثرهم هيبة في قلوب قريش، وكان ينشد ويقول:

ونسلمه !! حتى نصرع حوله

ونذهل عن أبنائنا والحلائل

ويقول

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتى أوسّد في التراب دفينا

لكن قضاء الله شاء أن يزيل عنه هذا المدافع والمحامي ليبقى في حماية الله سبحانه.

ثم ماتت زوجته خديجة رضي الله تعالى عنها والتي كانت الحضن الدافئ والمواسي الحنون والقلب الكبير حتى سمى ذلك العام عام الحزن لشدة حزنه على فقدهما وشدة مالاقاه من أذى المشركين بعدهما.

لكن الله شاء له أن ينفض يديه من التعلق بالخلق ليتصل حبله بالخالق وحده، وأن يكون مثالا عمليا للناس أجمعين أن الأمور بيد الله يقلبها كيف يشاء، من اعتمد عليه كفاه، ومن أوكل إليه أمره أغناه.

وعلى هدى الأقدار قام محمدٌ

لله فيه سرائر لم تُعلَم

متجرداً من كل جاه ظاهرٍ

وبغير جاه الله لم يستعصم

وبعد موت عمه تجرأ عليه المشركون وتطاول عليه سفهاؤهم وجهالهم ومجرموهم، فكانوا يلقون عليه أقذارهم ويتعرضون له بجهلهم، وذات مرة جاءته ابنته تزيل عنه أذاهم وهي تبكي، فقال لها صلى الله عليه وسلم: لاتبكي يابنية فإن الله مانع أباك.

ثقة بالله لم تضعف رغم المصائب، وحسن ظن به، ويقين بوعده.

رغم ظلمة الليل كان يرى من ورائه فجرا سينبلج، ورغم مرارة الألم كان يوقن بعده بسعادة ستغمره وتغمر العالم أجمع.

في شدة المحنة وفي غمرة هذا الألم جاءت منحة الوهاب له، فأسرى به إلى بيت المقدس وجعله إماما للأنبياء، ثم عرج به إلى السماء وإلى سدرة المنتهى حيث لم يرق أحد ولم يصل نبي، فبعد الضيق يأتي المخرج، وعلى مقدار الشدة يكون عظم الفرج، والمحن الشديدة تأتي بعدها المنح العظيمة «حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا أتاهم نصرنا فنجي من نشاء».

يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم

وفي بيان قرآني ونبوي يروي حال الأنبياء وقد أنزلوا مصائبهم بالله وأيقنوا بالفرج من عنده بعد محن شداد وبلاء عظيم، يحدثنا القرآن عن نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام حينما غضب عليه النمرود وألقاه في نار مستعرة وجحيم ملتهب فإذا به يضع حمله بباب الله وينتظر الفرج منه، وكان دعاؤه كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم «حسبي الله ونعم الوكيل» فانقلبت المحنة إلى منحة وجاء الفرج القريب بأمر الله «يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم» كيف لا وهو الذي قال «كلا إن معي ربي سيهدين».

أنا عند ظن عبدي

في الحديث القدسي الصحيح «أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ماشاء».

إن كنت كلما أصابتك مصيبة أو نزلت بك كارثة أو حل بك ماتكره سببت الدنيا ولعنت الدهر الذي أنزلك هذا المنزل وخشيت الضياع والخذلان وخارت قواك وأفكارك فما معنى إيمانك بالله؟ وما معنى ثقتك به ويقينك برحمته وكشفه للسوء؟

أما إن كنت ممن إن نزلت به مصيبة أنزل همه على باب الله، وحط أحماله على أعتابه، وقال حسبي الله ونعم الوكيل، وانتظر فرجا قريبا، وأحسن ظنه بربه، فانتظر عقبى حسن الظن بما تحب، ولاتشك بفرج قريب يأتي به الله «فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده».

العاقل والجاهل

قال أحد الحكماء: العاقل تهون عليه مصيبته بأمرين 1- سروره بما بقي له بعدها وبأنها لم تكن أعظم من ذلك. 2- انتظاره لفرج الله بعدها.

والجاهل تعظم عنده مصيبته بأمرين 1- جزعه وألمه بها. 2- خشيته عما سيكون حاله بعدها.

كم من مصيبة كنت تظنها ستكون القاضية، وكم من حزن ظننت أن الدنيا لن تحلو بعده، وكم من عزيز فقدته فتوهمت أنه لم يعد بعده شيء يستحق الحياة، كم وكم؟؟ لكن الحياة عادت كما كانت ولربما بطعم أحلى وأقدار أجمل،، فلا تتضايق وانتظر الفرج وقد جاء في الحديث «أعظم العبادة انتظار الفرج» والعرب كانت تقول «إذا اشتد الحبل انقطع» أي إذا اشتد الضيق فقد قرب الفرج.

إذا تضايق أمر فانتظر فرجا

فأقرب الأمر أدناه إلى الفرج

من المحال دوام الحال

لا تظن أن الحزن يدوم، وأن الضيق يبقى، وأن المصيبة لن تتحول، فكما أن السرور لايدوم فكذلك الحزن.

وكم أمر تساء به صباحا

وتأتيك المسرة بالعشي

وكم من أناس انقلبت أحوالهم إلى عز بعد ذل، وإلى غنى بعد فقر، وإلى جاه بعد مسكنة.

ألا موت يباع فأشتريه

الوزير محمد المهلبي كان قبل اتصاله بمعز الدولة، في شدة عظيمة من الضرورة والضائقة.

وكان قد سافر مرة، ولقي في سفره مشقة صعبة، واشتهى اللحم، فلم يقدر عليه!

فقال مرتجلا:

ألا مـوت يـبــاع فـاشـتـــريه

فهذا العيش ما لا خـيـر فيه

ألا مـوت لـذيـذ الـطـعـم يأتي

يخلصني من العيش الكـريه

إذا أبـصـرت قـبـرا من بعيد

وددت لـو أننـي مـمـا يـلــيـه

ألا رحـم المهيمن نفـس حـر

تـصـدق بــالـوفـاة عـلى أخيه

وكان معه رفيق، فلما سمع الأبيات، اشترى له بدرهم لحما وطبخه وأطعمه، وتفرقا.

وضاقت الأحوال برفيقه الذي اشترى له اللحم في السفر، وبلغه وزارة المهلبي. فقصده وكتب إليه:

ألا قـل للـوزيـر فـدته نـفـسي

مـقــالـة مذكر ما قد نسيه

أتذكـر إذ تقـول لماذا أعـيش

ألا مـوت يـبـاع فـأشتـريه؟!

فلما وقف الوزير على رقعته تذكره، وهزته أريحية الكرم، فأمر له في الحال بسبعمائة درهم، ووقع في رقعته «مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء».

ثم دعا به فخلع عليه، وقلده عملا يعيش منه.

» رغم المحن هناك منح الامل